الجمعة، 17 أغسطس 2012

ومضات من ذاكرة طفل كويتي في أيام الغزو !






أُراقبُ صُورتي هذِهْ ... أضحكُ علىَ براءتي 
خَاصهْ على تِلكَ الحلوى التي كُنتُ أستمتعُ بتذوقها 
وأنا مُتكئاً على رِجلِ أُمي ...

أرتحلُ مع هذهِ الصُورة التي أُلتِقِطَت لي .. قبلَ 22 سنه 
في زمنِ الغزو العراقي الغاشم ! 
ويصحُو في قلبي الكثيرُ من الحنين إلى الطفُولة
وتفاصيلٌ كثيرةْ أذكرُها رُغم صُغر سني آنذاكْ 
فـَ ذاكرةُ الطفلِ ذو الستة أعوام .. تحفظُ كُلُ ما حولها 
ولعل ذكرى الغزو قد أرشفتْ في ذاكرتي الكثيرْ !

ولأنَ الحنينُ في هذهِ الليلة قد صَحى وأنا أتأملُ صُورتي 
وددتُ أن أُدّونَ هُنا بعضُ التفاصيلُ المؤرشفة في ذاكرتيْ 
ذاكرتي عندمَا كُنتُ طفلاً في زمنِ الغزو .. أيّ قبلَ 22 سنه !

كـَ ومضاتٍ سـ أُدّون وليسَ كـ توثيق ! ...

عندمَا أستيقظنا في صباحِ يوم الخميسْ الموافق 2 - 8 - 1990 
عَلى صوتٍ مُزعج لم تعتاده أّذني الصغيرة أبداً ! ... 
أسألُ أُمي متعجباً علي أخرجُ بإجابةٍ شافية ! ...
أراقبها وهي بدورها تطلُ من نافذة بيتنا الكائن في { بيان } ... 
كانت هُناك أصوات مُرعبة ! .. رفعتُ رأسي إلى السَماء
و رأيتُ طائرةُ { هيلوكبتر } ضخمة .. أرعبني شكلها
فقد كانت هذهِ المرةِ الأولى التي أشاهد طائرةٌ حربية بهذا القربْ !

أو بالأصحْ .. طائرةٌ حربية حقيقية وليست مثلَ طائراتي البلاستيكية الصغيرة !!

يخفتُ الوميضْ .. و يشعُ وميضٌ آخر في الذاكرة 

عندمَا كُنتُ أراقبْ من وراء زجاجْ النافذة الخلفية لسيارة أبي 
شوارعٌ أعتادت عينايْ على رؤيتها .. لكنها هذهِ المرة تختلف جداً !!
أسمعُ مُصطلحاتٌ عديدة لا يستوعبها عقلي الصغير :
غزو !! .. احتلال !! .. غدر !! .. خيانة صدام !! .. جنود !!

كما سمعتُ بأننا ذاهبونَ إلى منزلِ خالتي في منطقةِ { اليرموك }
كونه المنزل الأكبر والذي يحتوي على سِردابٍ كبير !

ابتسمتُ بعفوية لأنني أُحب الذهاب إلى هناك واللعبْ مع { أحمد } ابنُ خالتي 
الذي يكبرني بـ بضع سنواتْ !

تكبرُ في رأسي علامةُ إستفهامٍ عن سبب وجود جنودٍ يرتدون الأخضر الداكن بهذهِ الكثرة 
في الشوارع !!؟
وسبب كل أصواتْ التفجيراتْ و الطائرات !!

ويخفتُ وميضُ هذا المشهد .. لـ يشع وميضٌ آخرْ 

هُنا كُنا مجتمعينَ في { غرفة معيشة } بيتُ خالتي 
بقربِ الباب الخشبي الكبير لـ البيتْ .. 
ذاكَ الباب الذي كان يهتزّ بقوة مُرعبة أثرَ كل صوتٍ وحشي
لـ طائراتٍ .. لـ دباباتْ .. لـ أسلحة عملاقة قال لي عنها أحدُ أقربائي يوماً !

قرأتُ الهلعْ والترقبْ على وجوهِ الجالسين و الواقفين 
والذين يترقبون شيءٌ ما على شاشةِ التلفاز .. 
أو كلمةٌ ما يقولها هذا { الراديو } الصغير الذي كانَ بحضنِ زوج خالتي !
الجميع كان يتساءل ويترقبْ .. اشتدت الأصوات والخلافات :

- سـ يخرج !!

- لن يدوم الوضع طويلاً !! 

- مُستحيل أن يحدث ذلك !!

- كيف يغدرُ بالكويت ؟!! 

ولا زلتُ أتذكرْ الطرقَات القوية التي كانت على البابْ !

وسرعان ما فتحنا البابْ لنرى أحدُ أبناء خالتي مع زوجته وأبناءه ...

زوجته التي كانت مُنهارة تماماً ! .. تصرخْ غير مصدقة

لما شاهدته في الشارع  " أنزلوا كويتي من سيارته .. أوسعوهُ ضرباً من دُونِ سبب !! .. يا إلهي !! "

أتذكرُ صوتٌ إذاعي قالَ عبارةٌ ما هزّت الجميع .. ليدافع كُلٍ منكم عن أرضه و عرضه !

أتذكرُ زوجَ خالتي .. بلحيته البيضاء ... عندما استشاطَ غضباً وذهبَ إلى غرفته وأخرجَ سيفاً وهو يقول :

- لن يمسسكم أي شي طالما أنا هُنا !! ...

أسترجعُ الأصوات وأتذكرُ بأن هناك من قال :

- أنزلْ سيفك يا { بوعبدالله } ! ... الطُغاة دخلوا { الديرة } بـ أسلحةٍ فتاكة .. بـ دبابات و طائرات حربية !
وأنتَ ستقابلهم بـ سيفكْ هداكَ الله ؟!!

عقبَ هذه الجملة الكثيرُ من الأصوات الداعية ! ...
الكثيرُ من التحسبِ .. بُكاءُ أمهاتْ تغلقن بأيديهن آذانِ أطفالهن عن الأصواتِ المُرعبة !

ويخفتُ الوميضُ من جديدْ .. لـ يضيءَ وميضٌ آخر في ذاكرتي !

دبابةٌ على الجسرِ المقابلْ للمنزل ... وسيارات حربية خضراءْ تأتِ وتذهب على ظهر ذاك الجسر !

يزدادُ عدد الأُسر والأقرباء في منزل خالتي ... 

وأنا أزدادُ ابتهاجاً كلما زادوا أقراني .. نلعبُ كثيراً في المنزل 

وأحياناً يسمحوا لنا أهالينا أن نلهو في حديقة المنزل .. لـنصعد على متن تلكَ { الزحليقة } التي تتوسطُ حديقة خالتي 

ورغم كل تلكَ الأجواء التي لم أفهم نصفها حتى ! .. إلا أنني كُنتُ سعيداً بتلك الجَمعة المُفاجأة !

في يومٍ ما قلتُ لأمي : لا نريدَ أن نذهب للمنزل .. لنبقى هُنا مدةٌ أطول !

ولا زلتُ أستذكرُ جمعةُ الرجالْ ...

وكذلك الفطور الصباحي عندما كانت كل أسرة تعّدُ شيئاً لنجتمع على سفرةٍ واحدة !

في أحدِ تلك الأيام سمعتُ بأذني بأن ليس كل ما أشتهيه سأجده على الفور !

وكنتُ أعشقُ جداً { الكورن فليكس } بـ كرتونته البيضاء والتي يتوسطها ديكٌ أخضرْ !

بالرغم من أنه يوماً بعد يوم باتَ ظهوره قليلاً على مائدةِ الفطور !


يخفتُ الوميضُ من جديدْ .. ليضيء وميضٌ آخر !

هُنا أنا مليءٌ بالبقعِ السوداء ! .. توبخني أمي على لعبي مدةٌ طويلة في الحديقة مع الأطفال !

تُحممني بماءٍ فاتر لأرى الماءَ ينزلُ من جسمي أسوداً و أمي تردد : حسبنا الله ونعم الوكيل فيك يا صدام !! .. 

اتساءل : لماذا نرى السماءَ سوداء دائماً ؟ ... 

وتقول لي أمي بأن صدام قد أحرق الآبار ! ... وماذا يعني { آبار } ؟!

آبار تعني نفط ! ...

إذاً النفطُ هو السوادُ الذي غطى السماء الزرقاء ! ...

وبـ فضولِ الأطفالِ اسأل من جديد : متى ينقشعُ هذا السواد ؟!

وبعدَ تنهيدةٍ عميقة تقول : قريباً .. قريباً إن شاء الله يا ولدي !

لا أنسى برودةِ الجو ... ولا أنسى تلكَ المرّات التي أمطرتْ فيها السماءَ مطراً أسودْ !

كان يُغطيني و يُغطي كُلُ ألعابُنا في الحديقة !!

وينتهي عُمرُ هذهِ الومضة فتختفي .. لتُولد ومضةٍ أخرى !!

هذهِ أول مرة لا تدعني أُمي أرسمُ بـ حُريةْ !!

أُمي قد غضبت مني جداً  عندمَا كُنتُ ألهو بـ بياضِ كراستي مُمسكاً بألواني 

وأرسمُ كما اعتدتُ .. علمُ بلادي ! .. ألّونُه بسعادة : بالأخضرِ والأحمرِ ..والأسود !!

نعم وبختني وحذرتني من أن أرسم ذلك على الأقل في الوقتِ الراهن !!

أذكرُ بأنها كانت تقولُ شيئاً عن : التفتيشْ ... وبأن الجنود يمرُون على المنازل ويفتشونها !!

رُغم ذلك لم تمزق رسوماتي ولا أعلامي الصغيرة ... حقيقة لا أعلم إلى الآن  أينَ كانت تُخبئهم آنذاك ؟

تنطفئُ هذه الومضة .. لـ تضيء أخرى !!

هُنا يومُ فرح !! ... الإبتسامة تغزو الجميع !!

تسكنُ وجهُ جدتي بتجاعيدها الدافئة ...

تنطلق مع أصواتِ التكبيرِ من الرجال ...

و { زغاريدُ } النساء ! ...

الكلُ خرجَ إلى { الحوشْ } ... ولاحظتُ بأنَ أحد أبناء خالتي قد كان يمسكُ سلاحاً !!

وأتضحَ فيما بعد بأنه كان يُخبئ الكثير من الأسلحة في المنزل من دُونَ أن نشعر !

تماماً كـ دخوله و خروجه في جنحِ الظلام ! ...

تنطفئُ هذه الومضة كذلك ... وتضيءُ في ذاكرتي ومضةٌ لا تُنسى !!

أخرجتْ أمي كل رسوماتي بفرحْ ...

ألبستني عَلمي الذي أشتقتُ إلى مُعانقته ...

وأهدتني أقلامي من جديد لأرسم ... 

أرسمُ هذه المرة بـ حرية ... 

وكان أول ما رسمته هُو علمُ الكويت بصفحةٍ كامله ... وبسعادةٍ كانت تغمرني لوّنتهُ

وخرجنا بـ { باصٍ } كبيرْ .. ضمنّا جميعاً ... 

الكل كان يهتفْ ! ... الكُل كانَ يُكبّر و يهللْ بالكويت !

والكل كان يلبسُ ألوانِ الكويت .. تلكَ الألوان التي أشتقنا وجودها على أجسادنا !

أتذكرُ برودةِ الشتاءْ الجميلة التي كانت تتغلغلُ في مساماتِ جسمي وأنا واقفٌ بالقربِ من نافذة الباصْ 

وأرفعُ بيدي رسمتي وعلى وجهي تعلو إبتسامة عفوية وأنا أرى وجوه كل من حولي تغمرها سعادةٍ افتقدتها مدةٌ طويله !


هذه الومضة وإن خَفَّ بريقها في الذاكرة ...
إلا أنها لا ُتنسى ولا تموتُ بي أبداً ! ...

وبعد أن كبرتْ ... عرفتْ ماذا يعني { وطن } ؟ 
وماذا تعني كلمة { صامد } ؟ ..  و { انتماء } و { غزو } !
ومصطلحاتٍ كثيرة كانَ عقلي الصغير لا يستوعبها !



والآن تعودَ لي إبتسامةُ تلكَ السنين ..
وبـ قلبٍ ينبضُ بالكويتِ أقول :



اللهم احفظ الأمن والأمان في وطني
وفي سائرَ بلادي المسلمين 
وأرحم شهداءنا الأبرار 


بـ ذاكرة / عبــدالله القـــوز 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق